كلمة في مكة بالمسجد الحرام نيابة عن المغفور له الملك خالد
تتسم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بالأصالة التي قامت على أساسها علاقات المملكة مع العالم الخارجي من التعامل الموضوعي المبني على ثوابت الإسلام والقيم العربية والمساهمة الإيجابية في استقرار ورخاء المجتمع الإنساني مع الإدراك العميق لحقائق توازن القوى مع المتابعة الدقيقة للمتغيرات على الساحة الدولية وجاءت سياسة خادم الحرمين امتداداً لحكمة الوالد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله الذي استطاع تشييد دول تعتز بجذورها وتحرص على مبادئها وتصون سيادتها كما تدافع عن مصالحها في إطار التزامها بالمواثيق واحترامها للشرعية الدولية 0
انطلقت سياسة خادم الحرمين الشريفين في المجال الدولي من مرجعية وطنية ذات بنية قوية متماسكة من أولوياتها حماية الأماكن المقدسة ورعاية الخصوصية والمحافظة على مواردها الطبيعية ومنجزاتها الحضارية وتحقيق الرفاهية للمواطنين عبر أمن مستتب وعدل قائم مع استخدام كافة الوسائل المشروعة لتحقيق ذلك والتزام دائم بسياسة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وعدم الاعتداء والحرص على حسن الجوار مما شكل القاعدة الصلبة لملامح السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في أبعادها الإقليمية والعربية والإسلامية وكذلك على الصعيد الدولي .
فعلى مستوى دول شبه الجزيرة العربية والخليج أعطى خادم الحرمين الشريفين أولوية كبيرة لهذه المنطقة الحيوية بحكم موقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية والسياسية والأمنية بالنسبة للمملكة العربية السعودية فحرصت المملكة على القيام بدور فعال في ( مجلس التعاون لدول الخليج العربية ) الذي تأسس في العام 1401هــ بهدف تعزيز التعاون وتوحيد الطاقات وحفظ الأمن والاستقرار وخدمة المصالح للدول الأعضاء وهي ( المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودول البحرين وسلطنة عمان ودول قطر ودولة الكويت) التي ترتبط بوشائج القربى وتتشابه أنظمتها السياسية وتشكل عوامل اللغة والتقاليد والخلفية الحضارية قواسم مشتركة بينها وأصبح المجلس أحد النماذج البارزة للتعاون بين الدول .
وقد عملت حكومة خادم الحرمين الشريفين في هذا الإطار على سلامة مسيرة مجلس التعاون واستشراف خططه المستقبلية وتنفيذها وإزالة العوائق التي تواجهه وحل الخلافات التي تطرأ بين دول المجلس ودفع جهود المجلس لإنجاز أهدافه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 0
ومن أبرز إنجازات المجلس ، تمسك دوله بسياسة عدم الانحياز ودعم القضايا العربية والتركيز على سياسة الاعتماد على الذات والتنسيق في المجالات السياسية في المحافل الدولية تجاه القضايا الإقليمية والدولية وتحقيق تعاون كبير في مجال مكافحة المخدرات وإقرار استراتيجية دفاعيـة
وتوقيع اتفاقيات أمنية وثقافية واقتصادية موحدة والاتفاق على إقامة اتحاد جمركي على أسس مرحلية وفق جدول زمني وهي مواقف وقرارات تحرص المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين على الالتزام بها مما حقق نتائج ملموسة على أرض الواقع تمس مباشرة وبشكل إيجابي تضامن دول المجلس وتفعيل قدراتها وتستجيب لتطلعات شعوبها .
وانطلاقاً من حرص المملكة العربية السعودية على تعزيز أواصر الأخوة القائمة وإرساء قواعد حسن الجوار مع دول شبه الجزيرة والخليج فقد وقعت المملكة مع سلطنة عمان في العام 1410هــ اتفاقية الحدود الدولية بين البلدين الشقيقين وفي العام 1416هــ تم استكمال ترسيم الحدود بين البلدين بالتوقيع على اتفاقية الحدود الدولية .
وفي العام 1420هــ تم التوقيع على الخرائط النهائية لترسيم الحدود بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر .
كما تم التوقيع بين المملكة ودولة الكويت في العام 1421هــ على اتفاقية بشأن المنطقة الحدودية المغمورة المحاذية للمنطقة المقسومة بين البلدين 0
ولخادم الحرمين الشريفين دور كبير في احتواء الخلاف واختلاف وجهات النظر بين البلدين الشقيقين قطر والبحرين حول قضية الحدود البحرية بينهما وبذل جهود متواصلة لحل ذلك الخلاف إلى أن تم إنهاء هذا النزاع الحدودي عبر الأسلوب السلمي في حل المنازعات .
ولن تنسى دول مجلس التعاون الخليجي والعالم العربي مواقف الملك فهد بن عبدالعزيز المشهودة من العدوان العراقي على دولة الكويت في 2 أغسطس 1990م التي قادت إلى تحرير دولة الكويت وإعادة الشرعية إليها 0
وامتداداً لسياسة حسن الجوار وتعزيز الروابط في شبه الجزيرة العربية وقعت المملكة واليمن في العام 1421هــ الاتفاقية الدولية النهائية للحدود البرية والبحرية بين البلدين .
وتحتل المملكة العربية السعودية مكاناً بارزاً في العالم العربي بفضل تمسك المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين بثوابت السياسة السعودية من الدعوة للوحدة والتضامن ومناصرة القضايا العربية بالإسهام الكبير في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية ودعم الصف العربي ونبذ الانقسام لتحقيق الأهداف المصيرية المشتركة في عالم تتنازعه الأحلاف والتكتلات فكان احترام المملكة العربية السعودية لدور جامعة الدول العربية وميثاقها والتزامها بمقرراتها أساسياً باعتبار الجامعة مؤسسة تؤدي دوراً مهماً في لم الشمل ورأب الصدع ودعم مسيرة العمل العربي المشترك لما فيه خير الأمة وعزتها .
وكان لمواقف خادم الحرمين الشريفين دور ريادي في حشد الطاقات العربية وتأكيد الثوابت العربية وإرساء أسس السلام العادل خاصة في الوقت الذي تصعد فيه إسرائيل عمليات الاستيطان الإسرائيلي والعدوان المستمر على الشعب الفلسطيني .
وحظيت سياسة المملكة الثابتة والقائمة على احترام مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية واللجوء إلى الحل السلمي في المنازعات بالاحترام والتقدير مما جعلها وسيطاً مقبولاً ونزيهاً لكل الأطراف في العالم العربي حيث أسهمت المملكة بقيادة الملك المفدى حفظه الله في وقف نزيف الدم العربي في لبنان كما عملت المملكة ولا تزال على تقريب وجهات النظر بين القادة العرب والقيام بأدوار متعددة بين الدول العربية .
وعلى الصعيد الإسلامي فإن التضامن الإسلامي وجمع شمل المسلمين سياسة سعودية راسخة أكد خادم الحرمين الشريفين على مواصلتها من خلال بث الإخاء الإسلامي ونشر الدعوة الإسلامية والاهتمام بنشر الفكر الإسلامي ودعم جهود الشعوب المسلمة وإغاثة المنكوبين من خلال رابطة العالم الإسلامي والعديد من المؤسسات الفاعلة والأنشطة المتواصلة .
فكانت المملكة العربية صاحبة الأثر الأكبر في قيام منظمة المؤتمر الإسلامي لدعم التعاون بين الدول الإسلامية ودعم كفاح الشعوب الإسلامية في سبيل المحافظة على كرامتها واستقلالها وحقوقها وفي العام 1401هــ وقع زعماء الدول الإسلامية ( بلاغ مكة) الذي أبرز التضامن الإسلامي وحدد معالم الطريق للعمل المشترك لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية .
وبذلت حكومة خادم الحرمين الشريفين كل الجهود في دعم التعاون الإسلامي بكافة الطرق فهي تعقد الاتفاقيات مع الدول الإسلامية في سبيل تعزيز التعاون الثنائي الذي يصب في النهاية في مصلحة الأمة الإسلامية حيث تم مؤخراً في العام 1422هـ توقيع الاتفاقية الأمنية مع جمهورية إيران الإسلامية كما أقامت المملكة علاقات دبلوماسية مع الدول الإسلامية في آسيا والتي استقلت اثر سقوط الاتحاد السوفيتي سابقاً .
كما تقف المملكة سياسياً ودبلوماسياً إلى جانب ضمان سلامة الشعوب الإسلامية وممارسة حقوقها ضمن إطار الشرعية الدولية ، ويتأكد ذلك من خلال العديد من القضايا منها التضامن مع شعب كوسوفا ، والحرص على وقف النزاع في الشيشان ، مع تقديم المعونات الإنسانية التي بلغت قيمتها حوالي 470 مليون ريال حتى العام 1422هــ ، عبر ” اللجنة السعودية المشتركة لإغاثة كوسوفا والشيشان ” .
وعلى صعيد السياسة الدولية فإن قيادة المملكة العربية السعودية إيماناً بأهمية التعاون في المجتمع الدولي كانت المملكة من الدول المؤسسة الخمسين لمنظمة الأمم المتحدة ووقعت على ميثاق تأسيسها في العام 1364هــ / 1945م وأبدت المملكة اهتماماً بتقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي للمنظمة تأكيداً لدور الأمم المتحدة الأساسي في حفظ الأمن والسلم الدوليين وتفعيل التعاون الإنساني في كافة المجالات.
وتحظى سياسة المملكة على الصعيد العالمي بالاحترام والتقدير نتيجة المصداقية التي تتمتع بها سياستها والمحافظة على التزاماتها التعاقدية واحترامها لكافة المواثيق والأعراف الدولية واضعة في اعتبارها الأول الحفاظ على سيادتها واستقلالها والمحافظة على مصالح الأمة العربية والإسلامية والتزامها الواعي بمواد ميثاق الأمم المتحدة واحترام المملكة لحقوق الإنسان واتباع سياسة عدم الانحياز في علاقاتها الدولية ورفض سياسة الأحلاف والتكتلات العسكرية .
وقدمت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله مساعدات كبيرة لدول العالم بدون منة أو شروط .
وبلغ إجمالي ما قدمته المملكة للدول من مساعدات إنسانية ميسرة من خلال القنوات الثنائية والإقليمية والدولية حوالي 245 مليار ريال في الفترة من 1973-1993م أي بنسبة 5ر5 في المائة من المتوسط السنوي الإجمالي للناتج الوطني في تلك الفترة في حين تبلغ النسبة التي حددتها الأمم المتحدة للدول المانحة في مساعداتها للدول النامية بالا تقل فيما تقدم من مساعدات عن 7 ر 0 في المائة من دخلها الوطني ، واستفاد من المساعدات التي قدمتها المملكة 70 دولة في مختلف القارات منها 38 دولة أفريقية و22 دولة آسيوية و 10 دول نامية أخرى .
ووفقاً لتلك الأرقام أصبحت المملكة هي أكبر الدول التي تقدم المساعدات الإنسانية في العالم بهدف إنساني بحت وغير مشروط 0
ونتيجة الواقع الصعب الذي يعيشه ملايين الناس في كثير من دول العالم الثالث نتيجة للأوضاع الاقتصادية الدولية المضطربة قادت المملكة أكبر الحملات وبشجاعة كاملة لمخاطبة أثرياء العالم بحقيقة وخطورة الأوضاع الاقتصادية التي تواجهها الدول النامية بل وسبقت الدول الأخرى بجعل معظم مساعداتها للدول الفقيرة منحاً غير مستردة وتوفير شروط ميسرة للغاية في القروض الإنمائية المقدمة إليها وخصصت لذلك الدعم مؤسسات وصناديق أدت دوراً كبيراً في مساعدة الدول النامية خاصة العربية والإسلامية منها بل أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مراعاة لظروف تلك الدول الاقتصادية إسقاط ديون المملكة على دول منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماع قمة المنظمة بداكار العام 1412هــ .
إن الصورة الإجمالية السابقة تعكس بجلاء ثلاثة أمور أساسية في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله وهي :
ــ التمسك بالثوابت الأساسية لسياسة المملكة العربية السعودية .
ــ السعي الدائم لتحقيق مصالح الأمتين العربية والإسلامية والدفاع عن قضاياها والسعي الملتزم بتحقيق الأمن والسلم الدوليين .
ــ البعد الإنساني في سياسة المملكة والنابعة من مبادىء الدين الإسلامي الداعية للتراحم على المستوى العائلي والوطني والإنساني العام .
وتكتسب سياسة الملك فهد بن عبدالعزيز بعداً إضافياً ومهماً من خلال الأســــلوب المميز في معالجة كافة القضايا على الصعيد الخارجي التي تتصدى المملكة لها بحكم موقعها الديني والسياسي والاقتصادي المحوري في العالم فتجد أنها سياسية ديناميكية وفاعلــــــــة نتيجــــــــــة العقلانيــــــــة في التناول والــــــــرؤيـــــــــة المنطقيـة فــــــي
التحليل وخطاب الاعتدال عبر دبلوماسية هادئة ودؤوبة في مواجهة الأزمات مع القدرة على التمييز المتمرس في المواقف والسعي عبر الحوار والمفاوضات لتحقيق المصالح المتبادلة للأطراف المتنازعة في بؤر الصراع بدون التفريط في الحقوق الجوهرية لأي من هذه الأطراف .
وينعكس منهج الملك فهد بن عبدالعزيز في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في عدد من القضايا الدولي التي كان لجهوده حفظه الله دور ريادي يسجله تاريخ العلاقات الدولية إنجازاً بارزاً في إيجاد الحلول الجذرية أو التمهيد الفعلي لحلول عملية في قضايا شديدة التعقيد والتشعب على كافة المستويات أعطاها خادم الحرمين الشريفين الكثير من وقته وطاقته وجهوده الدبلوماسية .
|